أسئلةٌ بحروفٍ من ألم
مع تجاعيد الغروب تشابكتْ أمام عينيه ضبابيةُ جملةٍ منَ الأسئلةِ التي لم يجدْ لها مفتاحاً يكتشفُ ما في داخلها من ألغازٍ بقتْ عالقةً بين تلافيف دماغه الذي لم يهدأ من كثرةِ ضجيجها ولو هنيهةٍ حتى يرتاحَ من عفنِ ونتنِ روائحها التي عشّشت في زفراته وشهقاته . ضوضاءٌ غريبة جعلته لا يحسّ بما يجري حوله ,محاولاً بأيّ وسيلةٍ الهروبَ منها ولكنْ دون جدوى فقد كانتْ تنتابه في كلّ خطوةٍ يخطوها, في حركاته و سكناته , فلم يكنْ أمام زُهيرٍ إلا اللجوءَ إلى أمّه فربّما تُخرجه من عفن أسئلته التي ظلّت عقدة يصعب فتحها وكشف دواخلها , ببسمةٍ من أمّه أو كلمةٍ تغدقُ حبّاً تفيضُ حناناً وردياً في ذلك البيت الصغيرِ الذي تتطرف بعيداً عن بيوتِ القرية , ذلك البيتُ الذي غُمِر بأحلامِ زهيرٍ في كلّ زاويةٍ منه , وعلى كلّ جدارٍ , تلك الأحلامُ التي أزالتْ طلاء الجدار المكشوط حتّى أبوابه التي تفتحُ مصراعيها للرياح ,و النوافذُ التي فتحَ ماء السماء مجرىً له بينَ بين زجاجها المكسور .
جلسَ على الأرض ولم ينبس بكلمةٍ ,لتتدخلَ الأم بابتسامتها المعهودة التي طالما رصفتْ طريقَ زهيرٍ بالنور والأمل قائلةً:
ما بكَ يا بنيّ مهموماً , أخبرني بنيّ , يا حبيبي
رقدتْ ضبابية تلك الأسئلة السوداء قليلاً ليخبرَ أمّه بأنه قد رُفضَ طلبه من البعثة التي كان مقرّراً فيها أن يسافر مع رفاقه إلى إحدى البلدان الغربية في أوربا .
لقد أخبرها وهو يعتصر متألماً لذاته متألماً لأحلامه التي طالما كان يقفلُ نهاياتها بلوحاتٍ وابتساماتٍ ورديةٍ , ولكنْ ماذا ينفع الألم ؟ وماذا ينفع البكاء على أحلامٍ أصبحتْ من مخلّفات سنواتٍ التهمها التاريخ لتبقى دوارسَ كبيداءَ خلتْ من قوافلها وفرسانها .
لا يمكن له أن ينسى سنوات قضاها في الدّرس والاجتهاد والتعب وفي صدره تربضُ همومَ أمّه وأخوته , ومستلزمات البيت ومصروفه , همومٌ تلبّدتْ غيمةً سوداءَ لا بصيص لشعاع شمسٍ يخترق سوادها .
ليس هذا فحسب ,وكذلك الألم الأكبر رفضُ طلبه ,بعد معاناةٍ سنواتٍ طويلةٍ من الدراسة في الجامعة ,وحصوله على المراتب الأولى في قسم الرياضيات وهذا الأمر الذي أهّله كي يدرج اسمه بين بقيةِ الأسماء المطروحة للانضمام إلى البعثة , ولاسيما أنّ تحصيله العلمي في قسمه بلغ أكثر من ثمانين بالمائة .
هذا الأمر الذي جعل أحلامه ترقص في أرجاء بيته بل تعدّتْ ذلك إلى زواريب قريته والتي أحسّ بأنها دخلتْ عالم الحياة من جديد من بين حجارةٍ كانتْ تتربص بكلّ جديد فيها وتمنعه من النمو والصعود .
نجاحٌ عظيم حققه بالرغم من أشواك ليالي سوداء نصبتْ في طريقه ألآمٍ اعتصرتْ دموعاً ودماً احتفظتْ به دفاتره و كتبه و طريقه الطويل بين قريته وجامعته .
ألمٌ وهمٌّ امتدّ يرافق سنوات ربيعهِ زارعاً دموعاً أُمشجتْ بدمٍ تلبّد سحابةً سوداءَ أغرقته وجعاً تتلفظ به علائم وجهه وتفاصيل جسدهِ حتّى قميصه البنّيّ و قبعته السوداء تكاد تنطق بذاك الوجع.
قامتْ أمّ زهير من مكانها لتجلسَ بالقرب من ابنها محاولةً دفعَ سحابة الوجع التي أدمتْ قلب ابنها زهير وجعلته ينام ويستيقظ على آهاتٍ استقرّت في صدره , قائلةً بابتسامةٍ يلفّها حزنٌ غامضٌ : اصبر يا بنيّ و ما صبرك إلا بالله , فكثيراً ما كان والدك يقول : (مَنْ يعملْ خيراً يجدْ خيراً ) وأنتَ يا بنيّ لم تعمل سوى الخير .
أجاب زهيرٌ بآهاتٍ ملأت صدره : لو تعلمين بما حدث لذرفتِ دموعاً و دماً .
لم يشأ زهير أن يُدخل أمّه في دوّامة ألمه التي جعلته في صراعٍ مع نفسه ,صراعٌ من أجل ذلك السبب الذي ظلّ مبهماً غامضاً مستوراً , ذلك السبب الذي لم يجد له زهيرٌ مبرراً , والذي من أجله رُفض طلبه ,والذي من أجله تشابكتْ في ذهنه تلك الأسئلة الحمقاء وجعلته يبحث في المجهول .
لقد وقع في شباك حيرةٍ جعلته يتردد كثيراً متحدثاً بينه وبين نفسه , هل أُخبر أمي بما جرى أم لا؟ غيرَ أنه لم يلتزم الصمت حيالَ ذلك الأمر فقال: أتدرين ما السبب الحقيقي الذي رُفض ابنك من أجله ومنعه من السفر إلى الخارج ؟
أجابتْ مستغربةً : لا ..
قال زهير بلهجةٍ يكتنفها الحزن: بكلّ بساطة , عندما عدتُ إلى مركز اللجنة المنظمة للبعثة لأستطلع سبب الرفض صادفت أحدَ أعضاء اللجنةِ , وأخبرني بأنني رُفضتُ قائلاً : السبب الذي من أجله رُفضتَ هو أنّ شخصيتك غير لائقة , ومعالم وجهك لا تخوّلك السفر ولكن يا بنيّ أنتَ إنسان بسيط وطيّب وأقول لك بكلّ صراحةٍ ليس هذا السبب الحقيقي , وإنما السبب الحقيقي هو أنك لستَ صاحبَ منزلةٍ وثراء وليس لك أيّ دعم من أحد , ومن أجل هذا فقد تمّ إيجاد بديل عنك وهو شخصٌ أنت تعرفه والفارق بين معدّل تحصيلك وتحصيله أكثر من عشرين بالمائة ,أيّ أنت تفوقهُ ,غير أنه من أسرةٍ ثريةٍ ميسورةٍ , وذاتِ دعمٍ و مستوىً عالي في المجتمع , ولن ينفعك الاعتراض إن اعترضت , فالأمر انتهى وليس هناك مجالٌ لتتمكن من العودة , فهذا قرار رئيس اللجنة المنظمة .
أردف زهيرٌ قائلاً : هل تستطيعين يا أمي أن تجدي تفسيراً لكلّ هذه القضايا ؟ إن كان هناك عيبٌ كما يقولون فماذا أفعل؟ أو إن كنتُ فقيراً فماذا أفعل ؟ أو إن كنتُ من أسرةٍ فقيرةٍ ليست صاحبة منزلة ورُقي فماذا أفعل ؟
وجمتْ الأمّ حائرةً بين أسئلةٍ رُسِمتْ بحروفٍ من ألم اختنقتْ غصّاتٍ رقدتْ بين حنايا صدرها مترجمةً بسمةَ أُمِّ وضحكتها إلى وعورةٍ اكتستْ ملامحَ وجهها بتجاعيد سُطّرتْ فيها حروفٌ من آهاتٍ وآلامٍ فتحتْ جروحاً جرتْ أنهاراً تتدفقُ بسرعةٍ في مجاري شرايينها لتصبّ حُرقةً ولهيباً في قلبها .
فراس حمّود
2012م